فصل: خلافة الرشيد بن المهدي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)



.خلافة المهدي محمد بن المنصور:

وهو ثالثهم، ووصل إليه الخبر بموت أبيه، وبالبيعة له، في منتصف ذي الحجة لأن القاصد وصل من مكة إلى بغداد، في أحد عشر يوماً، فباد أهل بغداد.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة وسنة ستين ومائة:
فيها أمر المهدي برد نسب آل زياد، الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان، إلى عبيد الرومي، وأخرجهم من قريش، فأخرجوا من ديوان قريش والعرب، وردوهم إلى ثقيف. وفيها حج المهدي، وفرق في الناس أموالاً عظيمة، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل الثلج إلى مكة.
وفيها مات داود الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي، وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري النحوي أستاذ سيبويه.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة:
فيها أمر المهدي باتخاذ المصانع في طريق مكة وبتجديد الأميال والبرك وبحفر الركايا، وبتقصير المنابر في البلاد وجعلها بمقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيها جعل المهدي يحيى بن خالد بن برمك مع ابنه هارون، وجعل مع الهادي أبان بن صدقة، وفيها توفي سفيان الثوري، وكان مولده سنة سبع وتسعين.
وفيها توفي إبراهيم بن أدهم بن منصور الزاهد، وكان مولده ببلخ، وانتقل إلى الشام، فأقام به مرابطاً، وهو من بكر بن وائل.
قال إبراهيم بن يسار، سألت إبراهيم بن أدهم، كيف كان بدو أمرك حتى صرت إلى الزهد؟ قال: غير هذا أولى بك، فما زال يلح عليه بالسؤال حتى قال: إني من ملوك خراسان، وكان قد حبب إلي الصيد، فبينما أنا راكب فرساً وكلبي معي، إذ تحركت على صيد، فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم، ليس لهذا خلقت، ولا به أمرت، فوقفت مقشعراً أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحداً، قلت: لعن الله إبليس. ثم حركت فرسي، فسمعت من قربوس سرجي: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا به أُمرت فوقفت وقلت هيهات! جاءني النذير من رب العالمين، واللّه لا عصيت ربي، فتوجهت إلى أهلي وجئت إلى بعض رعاء أبي فأخذت جبته وكساءه، وألقيت إليه ثيابي، ثم سرت حتى صرت إلى العراق، ثم صرت إلى الشام، ثم قدمت إلى طرسرس، فأستأجرني شخص ناطور البستان، قال: فمكثت في البستان أياماً كثيرة، كلما اشتهرت، اختفيت وهربت من الناس، وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من عمل يده، مثل الحصاد وحفظ البساتين، والعمل في الطين، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة:
فيها تجهز المهدي لغزو الروم، وجمع العساكر من خراسان وغيرها، وعسكر بالبردان وسار عنها، وكان قد استخلف على بغداد، ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد، فلما وصل المهدي إلى حلب، بلغه أن في تلك الناحية زنادقة، فجمعهم وقتلهم وقطع كتبهم.
وسار إلى جيحان، وجهز ابنه هارون بالعسكر إلى الغزو، فتغلغل هارون في بلاد الروم، وفتح فتحات كثيرة، ثم عاد سالماً منصوراً.
وفيها قتل المقنع الخرساني، واسمه عطا، وكان من حديثه، أنه كان رجلاً ساحراً، خيل للناس صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين، وإلى هذا القْمر أشار ابن سناء الملك بقوله:
إليك فما بدر المقنع طالعاً ** بأسحر من ألحاظ بدري المعمم

وادعى المقنع المذكور الربوبية، وأطاعه جماعة كثيرة، وقال: إن الله عزّ وجل حل في آدم، ثم في نوح، ثم في نبي بعد آخر، حتى حل فيه، وعمر قلعة تسمى سنام، بما وراء النهر من رستاق كيش، وتحصن بها، ثم اجتمع عليه الناس وحصروه في قلعته، فسقى نساءه سماً فمتن، ثم تناول منه فمات في السنة المذكورة، لعنه الله، فدخل المسلمون قلعته وقتلوا من بها من أشياعه، وكان المقنع المذكور في مبدأ أمره قصاراً، من أهل مرو وكان مشوّه الخلق أعور قصيراً، وكان لا يسفر عن وجهه، بل اتخذ له وجهاً من ذهب قتقنع به، ولذلك قيل له المقنع.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة:
فيها مات عم المنصور، عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعمره ثمان وسبعون سنة.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة:
فيها أرسل المهدي ابنه هارون الرشيد إلى الروم في جيش كثير، فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية، وغنم شيئاً كثيراً وقتل في الروم وعاد.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائة:
فيها قبض المهدي وزيره يعقوب بن داود بن طهمان، وكان قبل أن يتولى وزارة المهدي، يكتب لنصر بن سيار، ثم بقي بعده بطالاً، واتصل بالمهدي فاستوزره، وصارت الأمور إليه وتمكن عنده فحسده أصحاب المهدي، وسعوا فيه حتى أمسكه في هذه السنة، وحبسه، ولم يزل محبوساً إلى خلافة الرشيد، فأخرجه وقد عمي، فلحق بمكة، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده، وكان يعقوب ينهي المهدي عن ذلك، فضيق على المهدي حتى أمسكه المهدي وحبسه، وفيه يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم ** إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ** خليفة الله بين الناء والعود

وفي هذه السنة أقام المهدي بريداً بين مكة والمدينة واليمن، بغالاً وإبلاً: وفيها قتل بشار بن برد الشاعر على الزندقة، وكان أعمى، خلق ممسوح العينين، ولما قتل كان قد نيف على التسعين، وكان بشار المذكور يفضل النار على الأرض ويصوب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة:
فيها توفي عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي السفاح والمنصور وهو الذي أوصى له السفاح بالخلافة بعد المنصور. ثم خلعه المنصور وولى ابنه المهدي، وكان عمر عيسى بن موسى المذكور، خمساً وستين سنة، وفي هذه السنة زاد المهدي في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة وسنة تسع وستين ومائة.
موت المهدي:
فيها توفي المهدي، محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بماسبذان في المحرم، لثمان بقين منه، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً، وعمره ثلاث وأربعون سنة، ودفن تحت جوزة، وصلى عليه ابنه الرشيد، وكان المهدي يجلس للمظالم ويقول: أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.

.خلافة الهادي:

وهو رابعهم، كان موسى الهادي مقيماً بجرجان، يحارب أهل طبرستان، فبويع له بالخلافة في عسكر المهدي، في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهو لثمان بقين من المحرم، من هذه السنة، أعني سنة تسع وستين ومائة، ولما وصل الرشيد وعسكر المهدي إلى بغداد، راجعين من ماسبذان، أُخذت البيعة ببغداد أيضاً للهادي وكتب الرشيد إلى الآفاق بوفاة المهدي، وأخذ البيعة للهادي، ولما وصل إلى الهادي وهو بجرجان الخبر بموت أبيه المهدي، وبيعة الناس له بالخلافة، نادى بالرحيل، وسار على البريد مجدّاً، فدخل بغداد في عشرين يوماً واستوزر الربيع.
ظهور الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
في هذه السنة، ظهر الحسين المذكور بمدينة الرسول عليه السلام، وكان معه جماعة من أهل بيته منهم الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله المذكور هو ابن عاتكة.
واشتد أمر الحسين المذكور، وجرى بينه وبين عامل الهادي على المدينة، وهو عمر بن العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قتال، فانهزم عمر المذكور، وبايع الناس الحسين المذكور على كتاب الله وسنة نبيه، للمرتضى من آل محمد. وأقام الحسين هو وأصحابه بالمدينة يتجهزون، أحد عشر يوماً، ثم خرجوا يوم السبت، لست بقين من ذي القعدة، ووصل الحسين إلى مكة ولحق به جماعة من عبيد مكة. وكان قد حج تلك السنة جماعة من بني العباس وشيعتهم، فمنهم سليمان بن أبي جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد بن علي، وانضم إليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم، واقتتلوا مع الحسين المذكور يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين وقتل الحسين واحتز رأسه، وأحضر قدام المذكورين من بني العباس، وجمع معه من رؤوس أصحابه ورؤوس أهل المدينة ما يزيد على مائة رأس، وفيها أيضاً رأس سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واختلط المنهزمون بالحاج، وكان مقتلهم بموضع يقال له وج وهو عن مكة إلى جهة الطائفْ، ووج المذكور هو الذي ذكره النميري في شعره فقال:
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ** به زينب في نسوة خفرات

مررن بوج ثم قمن عشية ** يلبن للرحمن معتمرات

وفي قتل المذكورين بوج يقول بعضهم:
فلأبكين على الحسي ** ن بعولة وعلى الحسن

وعلى ابن عاتكة الذي ** واروه ليس له كفن

تركوا بوج غدوة ** في غير منزلة الوطن

وأفلت من المنهزمين، إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأتى مصر، وعلى بريدها واضح، مولى بني العباس وكان شيعياً، فحمل إدريس المذكور على البريد إلى المغرب، حتى انتهى إلى طنجة، ولما بلغ الهادي ذلك، ضرب عنق واضع، وبقي إدريس في تلك البلاد حتى أرسل الرشيد الشماخ النامي، مولى بني الأسد، فاغتاله بالسم فمات، ولما مات إدريس المذكور كانت له حظية حبلى، فولدت ابناً وسموه إدريس باسم أبيه، وبقي حتى كبر، واستقل بملك تلك البلاد، وحمل رأس الحسين ومعه باقي الرؤوس إلى الهادي، فأنكر الهادي عليهم حمل رأس الحسين، ولم يعطهم جوائزهم غضْباً عليهم، وكان الحسين المذكور، شجاعاً كريماً، قدم على المهدي فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة ما يملك ما يلبسه إلا فروة لم يكن تحتها قميص.
وفي هذه السنة مات مطيع بن إياس الشاعر. وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم المقرئ. أحد القراء السبعة، وروى عن نافع راويان، وهما ورش وقنبل، وكان نافع إمام أهل المدينة في القراءة، ويرجعون إلى قرائته، وكان محتسباً فيه دعابة، وكان أسود شديد السواد، وقرأ مالك عليه القرآن، وهذا نافع بن عبد الرحمن المقرئ. غير نافع مولى عبد الله بن عمر المحدث، فليُعْلم ذلك. وفيها مات الربيع بن يونس حاجب المنصور ومولاه.
ثم دخلت سنة سبعين ومائة:
وفاة الهادي:
وفي هذه السنة توفي موسى الهادي بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكان عمره ستاً وعشرين سنة، قيل إن أمه الخيزران قتلته، بأن أمرت الجواري فغمين وجهه وهو مريض، فمات ودفن بعيسا باذ الكبرى في بستانه، وكان طويلاً جسيماً أبيض، وكان بشفته العليا تقلص، وكان له سبعة بنين وابنتان.

.خلافة الرشيد بن المهدي:

وهو خامسهم. وفي هذه السنة أعني سنة سبعين ومائة، بويع للرشيد هارون ابن المهدي محمد بالخلافة، في الليلة التي مات فيها الهادي، وكان عمر الرشيد حين ولي اثنتين وعشرين سنة، وأمه وأم الهادي الخيزران أم ولد وكان مولد الرشيد بالري في آخر ذي الحجة، سنة ثمان وأربعين ومائة، ولما مات الهادي بعيسا باذ صلى عليه الرشيد وسار إلى بغداد وفي هذه السنة في شوال، أولد الأمين محمد بن الرشيد من زبيدة، واستوزر الرشيد يحيى بن خالد، وألقى إليه مقاليد الأمور. وفي هذه السنة عزل الرشيد الثغور كلها، من الجزيزة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحداً، وسميت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس، على يد فرج الخادم التركي، ونزلها الناس. وفي هذه السنة أمر عبد الرحمن الداخل الأموي المستولي على الأندلس ببناء جامع قرطبة، وكان موضعه كنيسة، وأنفق عليه مائة ألف دينار.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة:
في هذه السنة توفي عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس بقرطبة، ويعرف بعبد الرحمن الداخل، لدخوله بلاد المغرب، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. في ربيع الآخر، وكان مولده بأرض دمشق سنة ثلاث عشرة ومائة، ومدة ملكه الأندلس ثلاث وثلاثون سنة، لأنه تولى الأندلس في سنة تسع وثلاثين ومائة، ولما مات ملك بعده ابنه هشام بن عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين طويلاً نحيفاً أعور.
وقصده بنو أمية من المشرق والتجأوا إليه.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة:
فيها توفي رباح وكنيته أبو زيد اللخمي الزاهد بمدينة القيروان، وكان مجاب الدعوة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة:
فيها ماتت الخيزران أم الرشيد، وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة، وسنة خمس وسبعين ومائة:
فيها صار يحيي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الديلم. فتحرك هناك، وفيها ولد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن عبد الله المذكور، هو الذي سلم وانهزم لما قتل أهل بيته يوم التروية بظاهر مكة، حسب ما ذكرناه في سنة تسع وستين ومائة، وكان قد توفي أبوه إدريس الأول وله جارية حبلى، ولم يكن له ولد، فولدت الجارية بعد موته في ربيع الآخر من هذه السنة ولداً ذكراً، فسموه إدريس أيضاً باسم أبيه، فبقي حتى كبر واستقل بالملك.
دخلت سنة ست وسبعين ومائة:
فيها ظهر أمر يحيى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب بالديلم، واشتدت شوكته، ثم إن الرشيد جهز إليه الفضل بن يحيى في جيش كثيف، فكاتبه الفضل وبذل له الأمان وما يختاره، فأجاب يحيى بن عبد الله إلى ذلك وطلب يمين الرشيد، وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر، ففعل ذلك، وحضر يحيى بن عبد الله إلى بغداد، فأكرمه الرشيد وأعطاه مالا كثيراً، ثم أمسكه وحبسه حتى مات في الحبس.
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمنية، وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي، فجمع الرؤساء وسعوا في الصلح بينهم، فأتوا بني القين وكلموهم في الصلح فأجابوا، وأتوا اليمانية وكلموهم في الصلح، فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر، ثم سارت اليمانية إلى بني القين، وقتلوا منهم نحو ستمائة، فاستنجدت بنو القين، قضاعة وسليحا، فلم ينجدوهم، فاستنجدوا قيساً فأجابوهم وساروا معهم إلى العواليك من أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثر القتال بينهم، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق وولاها إبراهيم بن صالح بن علي، ودام القتال بين المذكورين نحو سنتين وكان سبب الفتنة بين اليمانيين والمضريين، أن رجلا من القين أتى رحى بالبلقاء ليطحن فيه، فمر بحائط رجل من لخم أو جذام، وفيه بطيخ فتناول منه فشتمه صاحبه وتضاربا، واجتمع قوم من اليمانيين وضربوا الذي من القين، فأعانه جماعة من مضر، فقتل رجل من اليمانيين فكان ذلك سبب الفتنة.
وفيها مات الفرج بن فضالة وصالح بن بشر القاري، وكان ضعيفاً في الحديث.
وفيها مات نعيم بن مسيرة النحوي الكوفي.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة:
في هذه السنة أعني سنة سبع وسبعين ومائة، توفي بالكوفة أبو عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي شريك، تولى القضاء أيام المهدي، ثم عزله الهادي، وكان عالماً عادلاً في قضائه كثير الصواب حاضر الجواب، ذكر معاوية بن أبي سفيان عنده، ووصف بالحلم فقال شريك: ليس بحليم من سفّه الحق، وقاتل علي بن أبي طالب، وكان مولده ببخارى سنة خمس وتسعين للهجرة.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة، وسنة تسع وسبعين ومائة:
فيها توفي مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث من ولد في الأصبح. ولذلك قيل له الأصبحي، وذو الأصبح اسمه الحارث بن عوف من ولد يعرب بن قحطان، وكان مولد الإمام مالك المذكور سنة خمس وتسعين للهجرة، أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، وأخذ العلم عن ربيعة الراي.
قال الشافعي رضي الله عنه: قال لي محمد بن الحسن، أيهما أعلم، صاحبنا أم صاحبكم، يعني أبا حنيفة ومالكاً.
قال: قلت على الإنصاف؟.
قال: نعم.
قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بالقرآن، صاحبنا أو صاحبكم؟.
قال: اللهم صاحبكم.
قال: قلت فأنشدك الله من علم بالسنة؟ قال: اللهم صاحبكم.
قال: قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله المتقدمين، صاحبنا أم صاحبكم؟.
قال: اللهم صاحبكم.
قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، وسعى بمالك إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إنه لا يرى الإيمان ببيعتكم هذه بشيء، لأن يمين المكره ليست لازمة فغضب جعفر، ودعا بمالك وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.
وتوفي مالك المذكور بالمدينة ودفن بالبقيع، وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلاً، وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي الفقيه المكي، وكان الشافعي قد صحبه قبل مالك وأخذ عنه الفقه، وكان أبيض مضرباً بحمرة. ولذلك قيل له الزنجي.
وفيها أعني في سنة تسع وسبعين ومائة، توفي السيد الحميري الشاعر، واسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، والسيد لقب غلب عليه أكثر من الشعر، وكان شيعياً كثيراً الوقيعة في الصحابة، وكان كثير المدح لآل البيت، والهجو لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن ذلك قوله في مسيرها إلى البصرة لقتال علي من قصيدة طويلة:
كأنها في فعلها حية ** تريد أن تأكل أولادها

وكذلك له فيها وفي حفصة أبيات؛ منها:
إحداهما نمت عليه حديثه ** وبغت عليه بغية إحداهما

ثم دخلت سنة ثمانين ومائهَ: فيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك صاحب الأندلس. وكانت إمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام وعمره تسع وثلاثون سنة وأربعة أشهر، واستخلف بعده ابنه الحكم ابن هشام، ولما وليَ الحكم خرج عليه عمّاه، سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن، وكانا في بر العدوة، فتحاربوا مدة والظفر للحكم، وظفر الحكم بعمه سليمان فقتله سنة أربع وثمانين ومائة، فخاف عمه عبد الله، وصالح الحكم سنة ست وثمانين، ولما اشتغل الحكم بقتال عميه، اغتنمت الفرنج الفرصة فقصدوا بلاد الإسلام، وأخذوا مدينة برشلونة في سنة خمس وثمانين ومائة.
وفي هذه السنة أعني سنة ثمانين ومائة سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام، فسكّن الفتنة التي كانت بالشام، وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب ما كان يقع من أهلها من العصيان في كل وقت.
وفيها أي سنة ثمانين ومائة وقيل سنة سبع وسبعين ومائة، توفي سيبويه النحوي بقرية يقال لها البيضاء من قرى شيراز، واسم سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر، وكان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، وجميع كتب الناس في النحو عيلة على كتاب 7 واشتغل على الخليل بن أحمد، وكان عمره لما مات نيفاً وأربعين سنة، وقيل توفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وقيل سنة ثمان وثمانين ومائة، وقال أبو الفرج ابن الجوزي؛ توفي سيبويه في سنة أربع وتسعين ومائة، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وإنه توفي بمدينة ساوة، وذكر خطيب بغداد عن ابن دريد، أن سيبويه مات بشيراز وقبره بها، وكان سيبويه كثيراً ما ينشد:
إذا بل من داء به ظن أنْه ** نجا وبه الداء الذي هو قاتله

وسيبويه لقبه، هو لفظ فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح، وقيل إنما لقب سيبويه لأنه كان جميل الصورة، ووجنتاه كأنهما تفاحتان، وجرى له مع الكسائي البحث المشهور في قولك: كنت أظن لسعة العقرب أشد من لسعة الزنبور. قال سيبويه: فإذا هو هي، وقال الكسائي فإذا هو إياها، وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلك هماً، وترك العراق وسافر إلى جهة شيراز وتوفي هناك.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة:
فيها غزا الرشيد أرض الروم فافتتح حصن الصفصاف وفيها توفي عبد الله بن المبارك المروزي، في رمضان، وعمره ثلاث وستون سنة.
وفيها توفي مروان بن أبي حفصة الشاعر، وكان مولده سنة خمس ومائة، وفيها توفي أبو يوسف القاضي، واسمه يعقوب بن إبراهيم من ولد سعد بن خيثمة، وسعد المذكور صحابي من الأنصار وهو سعد بن بجير واشتهر باسم أمه خيثمة، وأبو يوسف المذكور هو أكبر أصحاب أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة:
فيها مات جعفر الطيالسي المحدث.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة:
فيها توفي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد، وحبسه عند السندي بن شاهك، وتولى خدمته في الحبس أخت السندي، وحكت عن موسى المذكور أنه كان إذا صلى العتمة، حمد الله ومجده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثم يقوم يصلي حتى يطلع الصبح، فيصلي الصلح ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد
ويستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر الله تعالى حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات رحمة الله عليه، وكان يلقب الكاظم: لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه، وموسى الكاظم المذكور سابع الأئمة الاثني عشر على رأي الإمامية، وقد تقدم ذكر أبيه جعفر الصادق في سنة ثمان وأربعين ومائة، وتقدم ذكر جده محمد الباقر في سنة ست عشرة ومائة وولد موسى المذكور في سنة تسع وعشرين ومائة، وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين ومائة لخمس بقين من رجب ببغذاد، وقبره مشهور هناك، وعليه مشهد عظيم في الجانب الغربي من بغداد، وسنذكر باقي الأئمة الاثني عشر إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور، أخذ العلم عن أبي عمرو بن العلاء وكان عمره قد زاد على مائة سنة، وروى عنه سيبويه، وليونس المذكور قياس في النحو ومذاهب ينفرد بها.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة:
فيها ولى الرشيد حماد البربري اليمن ومكة وولىّ داود بن يزيد بن مرثد بن حاتم المهلبي السند. وولى يحيى الحرسي الجبل، وولى مهرويه الرازي طبرستان وولى إفريقية إبراهيم بن الأغلب وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة:
فيها مات عم المنصور، عبد الصمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وكان في القرب إلى عبد المناف بمنزلة يزيد بن معاوية، وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة.
وفيها توفي يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني وهو ابن أخي معن بن زائدة.
ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة.
الإيقاع بالبرامكة:
في هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة، وقتل جعفر بن يحيى وقد اختلف في سبب ذلك اختلافاً كثيراً، والأكثر أن ذلك لإتيانه عباسة أخت الرشيد، فإنه زوجه بها ليحل له النظر إليها، وشرط على جعفر أنه لا يقربها، فوطئها وحبلت منه وجاءت بغلام، وقيل بل الرشيد حبس يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عند جعفر فأطلقه جعفر، وقيل بل إنه لما عظم أمر البرامكة واشتهر كرمهم وأحبهم الناس، والملوك لا تصبر على مثل ذلك، فنكبهم لذلك، وقيل غير ذلك، وكان قتل جعفر بالأنبار، مستهل صفر من هذه السنة، عند عود الرشيد من الحج، وبعد أن قتل جعفر وحمل رأسه، أُرسل أن أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه، وأخذ ما وجد للبرامكة من مال ومتاع وضياع وغير ذلك، وأُرسل إلى سائر البلاد بقبض أموالهم ووكلائهم، وسائر أسبابهم، وأرسل رأس جعفر وجيفته إلى بغْداد، وأمر بنصب رأسه وقطعة من جيفته على الجسر، ونصب الأخرى على الجسر الآخر، ولم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه لبراءته مما دخل فْيه أخوه يحيى بن خالد بن برمك وولده، وكان عمر جعفر لما قتل سبعاً وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، وفي ذلك يقول الرقاشي وقيل أبو نواس:
الآن استرحنا واستراحت ركابُنا ** وأمسك من يجدي ومن كان يحتدي

فقل للمطايا قد أمنت من السرى ** وطي الفيافي فدْفداً بعد فدْفد

وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر ** ولم تظفري من بعده بمسود

وقل للعطايا يا بعد فضل تعطلي ** وقل للرزايا كل يوم تجددي

ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ** أصيب بسيف هاشمي مهند

وقال يحيى بن خالد لما نكب: الدنيا دول، والمال عازية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة.
وفي هذه السنة خلع الروم ملكتهم وكانت امرأة تدعى رمنى وملكوا تقفور فكتب إلى الرشيد: من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أمّا بعد، فإن الملكة التي كان قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا السيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة، ففتح وغنم وخرب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه.
وفي هذه السنة هاجت الفتنة بالشام بين المضرية واليمانية، فأرسل الرشيد وأصلح بينهم، وفيها ترفي الفضيل بن عياض الزاهد وكان مولده بسمرقند وانتقل إلى مكة ومات بها، وفيها توفي أبو مسلم معاذ الفرءا النحوي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة:
فيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة:
فيها وقيل في سنة إحدى وثمانين توفي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز المعروف بالكسائي، في الري، وهو أحد القراء السبعة، وكان إماماً في النحو واللغة، وقيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وأتى إلى حمزة بن حبيب الزيات ملتفاً بكساء، وقيل بل حج وأحرم بكساء.
وفيها سار الرشيد إلى الري وأقام به أربعة أشهر، ثم رجع الرشيد إلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة، وأمر بإحراق جثة جعفرة وكانت مصلوبة على الجسر، ولم ينزل ببغداد، ومضى من فوره إلى الرقة، فقال في ذلك بعض شعراء الرشيد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فانف ** رق بين المناخ والارتحال

سألونا عن حالنا إذ قدمنا ** فقرأنا وداعهم بالسؤال

فقال الرشيد: والله إني أعلم أنه ما في الشرق ولا في الغرب مدينة أيمن ولا أيسر من بغداد، وأنها دار مملكة بني العباس، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق، والبغض لأئمة الهدي، والحب لشجرة اللعنة بني أمية، ولولا ذلك ما فارقت بغداد.
وفي هذه السنة مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة، وكان والده الحسن من أهل قرية حرستا، من غوطة دمشق، فسار إلى العراق وأقام بواسط، فولد ولده محمد بن الحسن المذكور، ونشأ بالكوفة، ثم صحب أبا حنيفة وتفقه على أبي يوسف، وصنف عدة كتب مثل: الجامع الكبير، والجامع الصغير، في فقه أبي حنيفة وغير ذلك.
ثم دخلت سنة تسعين ومائة:
في هذه السنة سار الرشيد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى من لا ديوان له من الأتباع والمتطوعة، حتى نزل على هرقلة وحصرها ثلاثين يوماً، ثم فتحها في شوال من هذه السنة، وسبى أهلها، وبث عساكره في بلاد الروم، ففتحوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا وبعث تقفور بالجزية عن رعيته وعن رأسه أيضاً، ورأس ولده، وبطارقته، وفي هذه السنة نقض أهل قبرس العهد. فغزاهم معتوق بن يحيى، وكان عاملاً على سواحل مصر والشام، فسبى أهل قبرس، وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وكان مجوسياً، وفيها توفي أسد بن عمر، وابن عامر الكوفي صاحب أبي حنيفة، وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرقة، في المجرم وعمره سبعون سنة.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة:
فيها سار الرشيد من الرقة إلى خراسان فنزل بغداد، ورحل عنها إلى النهروان، لخمس خلون من شعبان، واستخلف على بغداد ابنه الأمين.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة. فيها مات الفضل بن يحيى بن خالد ابن برمك في الحبس بالرقة، في المحرم، وعمره خمس وأربعون سنة، وكان من محاسن الدنيا؛ لم ير في العالم مثله.
موت الرشيد:
في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة، مات الرشيد لثلاث خلون من جمادى الآخرة، وكان به مرض من حين ابتدأ بسفره، فاشتدت علته بجرجان، في صفر، فسار إلى طوس فمات بها في التاريخ المذكور، وكان قد سير ابنه المأمون إلى مرو، وحفر الرشيد قبره في موضع الدار التي كان فيها، وأنزل فيه قوماً ختموا فيه القرآن، وهو في محفة على شفير القبر، وكان يقول في تلك الحالة واسوءتاه من رسول الله، ولما دنت منه الوفاة غشي عليه ثم أفاق، فرأى المفضل بن الربيع على رأسه فقال:
يا فضل أحين دنا ما كنت أخشى دنوه ** رمتني عيونُ الناس من كل جانب

فأصبحتُ مرحوماً وكنت محسداً ** فصبرا على مكروه مر العواقب

سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ** وأندبُ أيام السرور الذواهب

ثم مات، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وسرور وحسين، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوماً، وكان عمره سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان جميلاً أبيض قد وخطه الشيب، وكان له من البنين: الأمين من زبيدة، والمأمون من أم ولد اسمها مراجل، والقاسم المؤتمن، والمعتصم محمد، وصالح، وأبو عيسى محمد، وأبو يعقوب، وأبو العباس محمد، وأبو سليمان محمد، وأبو علي محمد، وأبو محمد، وهو اسمه، وأبو أحمد محمد، كلهم لأمهات أولاد، وخمس عشرة بنتاً، وكان الرشيد يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وعهد بالخلافة إلى الأمين، ثم من بعده إلى المأمون، وكتب بينهما عهداً بذلك، وجعله في الكعبة، وكان قد جعل ابنه القاسم ولقبه المؤتمن، ولي العهد بعد المأمون، وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إن شاء استمر به وإن شاء عزله.